يصف محمد شحادة، الكاتب والمحلل من غزة، ما يجري في القطاع بأنه “يوم فأر الأرض” في إشارة إلى التكرار المأساوي للحروب الإسرائيلية المتواصلة. فإسرائيل شنت غارات جوية كثيفة على غزة مساء الثلاثاء، قتلت 104 أشخاص بينهم 46 طفلًا، في أكثر الهجمات دموية منذ بدء الهدنة التي توسّطت فيها الولايات المتحدة في 10 أكتوبر. رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أصدر أوامره بـ“ضربات قوية”، كما وصفها، بعد اتهام الجيش الإسرائيلي لحركة حماس بقتل جندي في رفح، بينما نفت الحركة مسؤوليتها.

 

ينقل موقع ديموكراسي ناو أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب دافع عن الهجوم الإسرائيلي، مؤكدًا في الوقت نفسه أن “الهدنة ليست في خطر”. لكن الواقع على الأرض يقول عكس ذلك. إذ يرى شحادة أن إسرائيل خالفت الهدنة أكثر من 125 مرة خلال أسبوعين فقط من سريانها، مع استمرار القصف اليومي ومنع دخول الغذاء بالكمّيات المتفق عليها، وإغلاق معبر رفح، واحتلال 58% من أراضي غزة وتحويلها إلى ما تصفه إسرائيل بـ“منطقة إبادة”، أي منطقة يُطلق فيها الرصاص أو القنابل على أي شخص يقترب منها.

 

يقول شحادة إن نتنياهو “مربوط بحبل فضفاض” وضعه ترامب، يسمح له بالتصعيد دون أن يبدو أنه نسف الهدنة علنًا. لكن نتنياهو يحاول شدّ ذلك الحبل لصالحه، ويقدّم ذرائع واهية لتوسيع الهجمات واستعادة “كثافة الإبادة” السابقة. الحادث الأخير في رفح مثّل فرصة له لتبرير القصف مجددًا، رغم أن حركة حماس لا تملك وجودًا فعليًا في المنطقة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي بالكامل. ويشبّه شحادة المشهد بمقاتلين معزولين في الغابات أو الأنفاق لا يدركون أن الحرب انتهت، فيواصلون القتال من دون علم بوجود هدنة.

 

يشير شحادة إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تنقض فيها إسرائيل اتفاقات وقف إطلاق النار. فخلال الحروب السابقة على غزة ولبنان، كان الجيش الإسرائيلي يوقّع على الهدنة ثم ينتهكها بعد أيام، بينما يتجاهل المجتمع الدولي ذلك بدعوى أن “المهم هو غياب الحرب في الإعلام”، لا على الأرض. يوضح شحادة أن إسرائيل تعتمد أسلوب “العنف منخفض الكثافة”، فتقتل نحو ثمانية أشخاص يوميًا في المتوسط منذ إعلان الهدنة، وهي وتيرة لا تثير العناوين الكبرى لكنها تضمن استمرار الإبادة بوتيرة صامتة.

 

في الوقت ذاته، تبقي إسرائيل على ما تسميه “المنطقة العازلة” داخل غزة، وهي في حقيقتها جدار غير مرئي يقسم القطاع إلى نصفين: نصف يسيطر عليه الجيش الإسرائيلي وميليشيات محلية موالية له، والنصف الآخر يحاصر فيه أكثر من مليوني فلسطيني داخل 42% من مساحة غزة. يوضح شحادة أن هذا الجدار أكثر فتكًا من جدار برلين، إذ يُطلق الرصاص على كل من يقترب منه حتى لو لم يحاول عبوره.

 

ويشير إلى مناقشات داخل حكومة نتنياهو تكشف طبيعة التفكير العسكري الإسرائيلي، حيث اقترح وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير “إطلاق النار على الأطفال الذين يقتربون من الخط”، فردّ عليه وزير آخر ساخرًا: “من نطلق عليه النار أولًا، الطفل أم الحمار الذي يقوده؟”. هذه كانت كلمات رسمية داخل مجلس الوزراء، كما يؤكد شحادة.

 

تستخدم إسرائيل هذا “الخط الأصفر” – كما يسمّى داخل الجيش – لتصميم مشهد وهمي لإعادة الإعمار. فالمناطق الواقعة شرق الخط، التي تخضع لسيطرة الجيش فقط، تُقدَّم للعالم باعتبارها نموذجًا لإعمار غزة، بينما يُترك السكان الحقيقيون في الغرب محاصرين بلا ماء أو كهرباء. يشبّه شحادة هذا السيناريو بما فعله النظام البورمي ضد الروهينجا عام 2023، حين أنشأ “قرى نموذجية” صغيرة لإيهام العالم بعودة اللاجئين بينما أبقى أكثر من مليون شخص في مخيمات بنجلاديش. ويقول إن إسرائيل تطبق الآن الفكرة نفسها في غزة، عبر “حل دولتين داخل القطاع نفسه”.

 

عندما سُئل شحادة عن مبررات نتنياهو للهجمات الأخيرة بذريعة البحث عن جثث الرهائن الإسرائيليين، قال إن رئيس الموساد دادي بارنيا حذّر نتنياهو قبل عشرة أشهر من استحالة العثور على الجثث تحت أكثر من خمسين مليون طن من الركام. الأمم المتحدة قدّرت أن رفع الأنقاض وحده سيستغرق حتى عام 2050، وأن إزالة الذخائر غير المنفجرة ستستغرق 35 عامًا.

 

يرى شحادة أن إسرائيل تستغل أي حادثة غامضة – سواء انفجار قنبلة غير منفجرة أو إطلاق نار بين وحداتها – لتبرير القصف. فالمناطق المحاصرة تُمنع عنها الصحافة الدولية، مما يجعل رواية الجيش الإسرائيلي هي الوحيدة المتداولة.

 

ويضيف أن الهدف الحقيقي من الهدنة هو منح الجيش الإسرائيلي استراحة لصيانة دباباته وتجهيزاته قبل استئناف الحرب. مسؤول أمني إسرائيلي سابق صرّح لقناة إسرائيلية بأن “لا نية لنتنياهو بإنهاء الحرب، وإنما فقط استراحة قصيرة لإعادة ترتيب القوات”.

 

يختم شحادة حديثه قائلاً إن ما يجري ليس “وقف إطلاق نار” بل إعادة ترتيب للإبادة بحيث تستمر بوتيرة لا تزعج العناوين، مشيرًا إلى أن العالم اكتفى بالواجهة الإعلامية للهدنة، بينما يواصل الفلسطينيون الموت في الظل، واحدًا تلو الآخر، كل يوم.

 

https://www.democracynow.org/2025/10/29/gaza_israel_strikes_muhammad_shehada